فصل: تفسير الآيات (1- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (28- 30):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة قد طلعت على المشركين المكذبين بيوم القيامة- طلعت عليهم بهذا اليوم، وكشفت عما وقع عليهم من ملاقاته، من هلع وفزع..!
وإنه ليس هذا، وحسب، هو الذي يلقاه الكافرون من هذا اليوم، بل إن هناك عذابا أليما في نار جهنم التي أعدت لهم.. وهذا ما جاءت الآية الكريمة لتقريره، في أبلغ صورة، وذلك أن هذا العذاب الواقع بالكافرين لا يصرفه عنهم أحد، من صديق أو قريب، وأن ما يقع لغيرهم من إساءة أو مسرة، لا أثر له في العذاب الواقع بهم.. فاذا أهلك اللّه النبي ومن معه أو رحمهم في هذه الحياة الدنيا، فليس في هذا ما يخلّص الذين كفروا، من عذاب الآخرة، أو يدفعه عنهم.. إنه واقع بهم، فلا محيد لهم عنه، ولا منقذ له منه.
إنهم كانوا يتمنون هلاك النبي، ويتوقعون أن يصبحوا يوما فلا يرون له مكانا فيهم، وهذا ما ذكره اللّه تعالى عنهم في قوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [30 الطور] وفى هذا- على ما قدّروا- راحة لهم من عناء، وعافية من بلاء.
وإنهم لواهمون في تقديرهم هذا، مخدوعون فيما يتمنون، إذ ماذا يعود عليهم من موت النبي؟ إنه صلوات اللّه وسلامه عليه- لا يملك لنفسه، ولا لمن معه نفعا ولا ضرّا، بل الأمر كله بيد اللّه، وأن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- ليس هو الذي يتولّى حساب هؤلاء الكافرين، ويأخذهم بالعذاب الذي أعدّ لهم، حتى إنه لو مات لرفع عنهم العذاب- وكلا.. إنه ليس هو الذي يتولى هذا، بل الذي يتولاه، هو اللّه سبحانه، وليس للكافرين من مجير من هذا العذاب.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
أي إن النبي ومن معه، هم في مقام العبودية للّه، كسائر الناس جميعا.. إن آمنوا باللّه، وأحسنوا العمل، غفر اللّه لهم، وأنزلهم منازل المكرمين.. ولهذا جاء قوله تعالى إلى النبي الكريم، بإعلان هذا الايمان باللّه في وجه الكافرين، ليكون لهم من ذلك علم بأن النبي ليس خارجا عن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها، وأنه عبد اللّه مؤمن به، متوكل عليه.. وتلك هي سبيل المؤمنين معه.
فهل يؤمن الكافرون باللّه؟ وهل يأخذون الطريق الذي أخذه النبي وأصحابه؟:
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} [137: البقرة].
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ} هو تهديد للكافرين بأن يسلط اللّه تعالى عليهم البلاء في الدنيا، وأن يرميهم بالمكاره، وأن ينزع عنهم نعمه التي يعيشون فيها.
فلو أن اللّه سبحانه ذهب بهذا الماء الذي هو قوام حياتهم، وحياة حيوانهم ونباتهم، فمن يأتيهم بجرعة ماء منه؟
وغور الماء: هو ذهابه غائرا في الأرض، أي منسربا فيها، ضائعا في بطنها.
والماء العين، هو الماء الذي يفيض من العيون.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى النبي الكريم، وإلى القرآن الذي بين يديه، أنه هو الحياة التي منها حياة القلوب والنفوس، وأنه لو ذهب هذا النبي- كما يتمنون- لكان في هذا هلاكهم، وضياعهم، بذهاب مصدر الهدى والنور لهم. إنه لن يأتيهم نبى بعده، ولن ينزل عليهم من اللّه كتاب بعد هذا الكتاب، الذي إن فاتهم حظهم منه، فقد فاتهم ماء الحياة، وغذاء الأرواح.

.سورة القلم:

نزولها: مكية.. نزلت بعد العلق.
عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة كلمة.
عدد حروفها: ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
بين هذه السورة، وسورة الملك قبلها، أكثر من مناسبة.
فأولا:
ختمت سورة الملك بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ}.
وفى هذا- كما قلنا- تهديد للمشركين بذهاب هذا النور الذي يرفعه النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبصارهم، من آيات اللّه، وكلماته.
وبدئت سورة القلم بقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ}.
لتلفت المشركين إلى هذا النور القرآنىّ الذي يكتبه الكاتبون، بعد أن يتلقاه النبيّ من ربّه، وأنهم إن لم يبادروا إلى الإمساك به في قلوبهم، وحفظه في صدورهم، يوشك أن يفلت من بين أيديهم، فلا يلقوه أبدا.
كما أن في ذكر القلم وما يسطر به الكاتبون، إلفاتا عامّا إلى شأن الكتابة والكاتبين، الذين هم أهل العلم والمعرفة، وأن هؤلاء المشركين امّيون لم ينالوا حظّا من العلم عن طريق الكتابة والكتاب، وها هم أولاء وقد جاءهم رسول كريم، كان مفتتح دعوته دعوة آمرة بالقراءة، ثم تلاها بعد ذلك هذا القسم بحروف الكتابة، وأدواتها- وذلك ليخرجوا من ظلام هذا الجهل الذي غطّى على أعينهم، وحال بينهم وبين أن يهتدوا إلى هذا النور الذي يدعوهم الرسول الكريم إليه.. فالجهل هو الآفة التي أفسدت على هؤلاء المشركين رأيهم في دعوة السماء لهم إلى الإيمان، ولو أنهم أخذوا حظّا من العلم، لاستقام طريقهم على الحق، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [2: الجمعة].
وثانيا: جاء في ختام سورة الملك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا} وفى هذا ما يشير إلى نظرة الكراهية والاستثقال التي ينظر بها المشركون إلى النبي، وإلى مقامه فيهم، حتى إنهم ليتمنون زواله من بينهم.. وجاء في مفتتح سورة القلم ما يضفى على النبيّ الكريم حلل التكريم والتمجيد التي خلعها عليه ربّه، فوصفه سبحانه بهذا الوصف الربّانىّ، الذي لو قسّم في الخلق جميعا لأرضاهم، وأغناهم، وأسعدهم، فيقول اللّه سبحانه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
وفى هذا ما يكبت المشركين، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 16):

{ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ}.
اختلف المفسرون في تأويل كلمة ن فأضافوا إليها مفهوما جديدا غير تلك المفاهيم الكثيرة التي تشارك فيها غيرها من الحروف التي بدئت بها أوائل السور.. فهى بهذه المفاهيم.. حرف من تلك الحروف، يقع عليها الخلاف الذي وقع في هذه الحروف وكثرت المقولات فيها.
أما المفهوم الخاص الذي جعل لهذه الكلمة، أو هذا الحرف، فهو أن يراد به ما يقال عن الحوت العظيم الذي تقوم عليه الأرض، كما يزعم لزاعمون.. وكأنّ المفسرين قد نظروا في هذا إلى قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [87: الأنبياء] ثم إلى ما جاء في قوله سبحانه في هذه السورة: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (الآية: 48).. فالسورة تبدأ بالحرف ن وفى خاتمتها يذكر {صاحب الحوت}.
وصاحب الحوت هو ذو النون.
أي يونس عليه السلام.. وإذن فهذه قرائن على أن حرف ن هو اسم للحوت!.. هذا ما نحسب أن المفسّرين الذين قالوا إن ن هي الحوت، قد نظروا إليه، وأخذوا قولهم هذا عنه.
ولكن أي حوت هو؟ أهو الحوت الذي ابتلع يونس عليه السلام؟ وكلّا فإن الحوت الذي يقسم اللّه سبحانه وتعالى به، يجب أن يكون ظاهرة فريدة من ظاهرات الوجود.. ليكن إذن هو الحوت الذي تتحدث عنه قصة أو قصص خلق العالم، التي كانت تعيش في خيال كثير من الأمم والشعوب!! إن هذا الحوت الذي يقال إنه يحمل الأرض، أو بمعنى أدقّ، يحمل الثور الذي يحمل الأرض بقرنه- هو من مواليد الخرافات والأساطير، وما يروى عنه من مقولات تضاف إلى الصحابة أو التابعين، هو أحاديث مكذوبة على هؤلاء السادة الأعلام، الذين يرفعهم قدرهم ودينهم عن أن يقولوا بغير علم، والذين لو ثبت لهم قول، لكان هذا القول من الحق المتلقّى من نور النبوة، ولما اصطدم أبدا مع واقع الحياة، وما يكشف عنه العلم من حقائق.
فالحرف، أو الكلمة ن هي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه، والراسخون في العلم، الذين يعرفونه بإحالة المتشابه على المحكم، والذين هم على الإيمان به إيمانهم بالمحكم.. إذ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا}.
هذا من حيث المعنى.. أما من حيث اللفظ، فإن لهذا الحرف أثره في صورة النظم الذي جاءت عليه السورة.. حيث كانت فواصلها تنتهى بمقطع أشبه بلفظ نون.
أي أنه مقطع مكون من ثلاثة أحرف، أولها متحرك، وثانيها حرف مدّ ساكن يتبع هذه الحركة، وثالثها حرف ساكن بالوقف عليه.
وهذا للقطع الذي يمثله حرف ن الذي ينطق هكذا: نون هو لازمة النغم الموسيقى الذي تضبط عليه فواصل الآيات في السورة كلها.. مثل:
{يسطرون} {مجنون} {عظيم} {مفتون} إلى خاتمة السورة.
وقوله تعالى: {وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ} هو معطوف على ن المقسم به أي أقسم بنون، والقلم وما يسطرون.
والمراد بالقلم، هو أداة الكتابة، التي يكتب بها العلماء، العلوم والمعارف.
فهو نعمة من نعم اللّه الجليلة، التي تخطّ على الصحف ثمرات العقول، ونتاج الأفهام.
وقد نوه سبحانه وتعالى بالقلم، ورفع قدره، فكان أول ما وضع بين يدى النبي الكريم في أول آيات افتتحت بها رسالته: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} [1- 5: العلق] وفى القسم بما يسطر الكاتبون بالقلم- إشارة إلى أن هذه الأداة المكرمة ينبغى ألا يكتب بها إلا ما كان من الحق والخير، وإلا ما كان دعوة إلى هدى وتوجيها إلى خير.. إنه أداة تسجيل العلوم والمعارف وحفظها، وهو ينقل عن الإنسان نتاج تفكيره، وثمرات عقله، ويقيم له بهذا ذكرا خالدا في الحياة، بقدر ما يحمل القلم عنه من خير، وما ينشر من نفع، فكان لهذا جديرا بأن يصان من أن يخطّ باطلا، أو يسجل لغوا.
وقوله تعالى: {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} هو جواب القسم.. وهو تكذيب لهذه التهمة الحمقاء التي كان المشركون يرمون بها النبي، حين جاءهم يقول لهم: إنه رسول اللّه، وإنه يتلقى آيات اللّه التي يحملها إليه رسول الوحى جبريل عليه السلام.. فلقد هالهم هذا الأمر، واستعظموه، ورأوا أن القول به لا يكون من عاقل، لأنه لا يقع في تصورهم أن يكون إنسان على اتصال بعالم السماء، وبرب السماء! إن اتصال الرسول باللّه، ومخاطبة الملك له، يعنى عندهم أمرا مستحيلا، أشبه بمن يقول لهم: إنى أنا الذي أرسيت هذه الجبال بيدي، فلا يرون في قائل هذا القول إلا أنه يهذى هذيان المخمور، أو المحموم، أو المجنون.
والباء في قوله تعالى: {بمجنون} حرف جر، ومجنون خبر المبتدأ {أنت} أي: ما أنت بذي جنة، وفائدة حرف الجر هنا، أنه يقوم حجازا فاصلا بين النبي، وبين إسناد الجنون إليه.
فهذا الجنون، وإن كان واقعا تحت حكم النفي المسلط على المبتدأ {أنت} إلّا أنه هو حقيقة ثابتة، لم يتناولها النفي الذي وقع على المبتدأ: {ما أنت}.
فالمنفىّ عنه الجنون هنا، هو شخص النبي.. أما الجنون ذاته فإن نفيه عن النبي، إنما جاء تابعا للنفى الواقع على ذات النبي في هذا المقام: {ما أنت}.
أي لست أنت الذي يوصف بهذا الوصف، بل غيرك هو المجنون، من هؤلاء الذين باعوا عقولهم في سوق الغواية والضلال.
وهذا المعنى وإن كان يتحقق مع عدم ذكر حرف الجر، بأن يجيء النظم هكذا {ما أنت مجنون} فإن فيه مواجهة للنبى بهذه الصفة، التي هي أبعد الصفات منه صلوات اللّه وسلامه عليه، إنها داء خطير يتناول وجود الإنسان، ويذهب بكل معالم إنسانيته.. ولهذا جاء مع نفى تلك الصفة عن النبي- هذه المباعدة الادية بينه وبينها، فقام حجاز بينه وبينها بقوله تعالى: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}.
ثم قام حجاز آخر بحرف الجر الباء.
{ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}.
وفى هذا كله ما يؤكد تلك الحقيقة التي جاءت الآية الكريمة لتقريرها، وهى بعد النبي- بعدا معنويا، وحسيّا- عن أن يلم بحماه الكريم شيء يمسّ عقله في سلامته، وكماله.. ومثل هذا قوله تعالى: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وقوله سبحانه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}.
ففى هذين المقامين توكيد لنفى هاتين الصفتين المذمومتين عن النبي: التجبر، والتسيطر.. وهذا آكد وأبلغ في نفى هاتين الصفتين عن النبي، من أن لو جاء النظم هكذا: ما أنت جبار، ما أنت مصيطر، برفع هذه الحواجز المادية التي تحجز السوء عن أن يواجه به النبي، حتى ولو كان هذا السوء واقعا في قيد النفي.
وقوله تعالى: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} إما أن يكون جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، يرادبها الإشارة إلى أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- في نعمة سابغة من ربه، وهو بهذه النعمة معافى من كل عارض سوء يعرض له في عقله، أو روحه، أو قلبه. فهذا أشبه بمن يقال له: أنت- بحمد اللّه- في عافية، أو أنت- وللّه الحمد- في أمان.
وإما أن يكون قوله تعالى: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}، متعلقا بمحذوف، حال من الضمير المستكنّ في قوله تعالى: {بِمَجْنُونٍ}.
أي ما أنت بمجنون، والحال أنك محفوف بنعمة ربك..!
قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} معطوف على جواب القسم: {ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}، وهو وعد من اللّه سبحانه للنبى الكريم، بالأجر العظيم المتصل، غير الممنون، أي غير المنقطع عنه أبدا، وذلك جزاء جهاده، وصبره على ما يلقى من أذى قومه، وسفاهتهم عليه.
والأجر غير الممنون، هو غير المقطوع، أي الدائم المتصل.
ويجوز أن يكون معنى الأجر غير المنون هنا، هو الأجر الذي لا منّة عليك فيه من أحد، أي لا فضل لمخلوق عليك فيه.. فهو فضل خالص من عند اللّه لك، وإنك لأهل له، بما احتملت من أذى في سبيل دعوة الحق التي تدعو إليها.. وفى هذا تنويه بقدر النبي، ورفع لمقامه عند ربه، وأن هذه المنزلة التي يلغها هى- وإن كانت من فضل اللّه- محسوبة من كسب النبي، ومن سعيه المحمود المبرور، عند ربه.
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
هو تقرير لما تضمنه قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} فهذا الأجر غير الممنون، هو ثمرة لهذا الخلق العظيم، الذي كان عليه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم.. وحسب رسول اللّه بهذا الوصف الكريم، من اللّه سبحانه وتعالى- حسبه بهذا شرفا وعزّا، حيث توّجه ربه- جلّ وعلا- بتاج الكمال كله، إذ ليس بعد حسن الخلق حلية تتحلى بها النفوس، أو تاج تتّوج به الرءوس.. ففى مغارس الخلق الحسن، كانت رسالات المرسلين، ومن أجل حماية هذه المغارس، وإطلاع ثمرها، كانت دعوة الرسل، وكان جهادهم، الذي توّج بدعوة سيد الرسل، وجهاد خاتم النبيين.. وفى هذا يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}.
هو وعيد للمشركين، وفضح لما هم فيه من ضلال، وأنه سيأنى يوم تنكشف فيه حالهم، ويرون فيه سوء أعمالهم، كما سيرون ما كان عليه ضلالهم في رسول اللّه، وفى مقولاتهم الباطلة فيه.
وقوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} متعلق بالفعلين: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} فالفعلان يتنازعان العمل فيه، إذ هما مسلطان عليه.. فالنبى سيبصر، وهم- أي المشركون- سيبصرون، بأيّ- منه أو منهم- المفتون.
والمفتون، هو، الذي فنن بنفسه، وغرّه الغرور، فركب مركب الفتن والضلال، وهو على ظنّ أو يقين بأنه أهدى سبيلا، وأقوم طريقا.
ويكون قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ} متعلقا بفعل محذوف دلّ عليه المقام أي ستبصر ويبصرون بأيكم تتعلق الفتنة، وبأيكم يتحقق وصف المفتون، أو يتمثل شخصه.
أي فستبصر أيها النبي، وسيبصر المشركون، بأيكم كان الشيطان متلبّسا به، مستوليا عليه، مالكا زمامه؟.
والجواب واضح لا يحتاج إلى بيان، والنبي على يقين منه، وإن كان المشركون عن هذا في غفلة وضلال، وفى ادعاء وغرور.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [24: سبأ].
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
أي إنكم إذا لم تعلموا أيها المشركون وأنتم في هذه الدنيا، أنكم مفتونون ضالون، قد أغواكم الشيطان وفتنكم- فإن ربك- أيها النبي- هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وانقاد لشيطانه، وبمن هو على طريق الهدى ودين الحق، فيجازى كلّا بما عمل.
قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.
هو نهى للنبى الكريم، عن أن يستمع للمكذبين، الذين يكذبون بآيات اللّه، ويقفون منه هذا الموقف الضال الآثم.
وفى هذا النهى جواب على قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} حيث يحذّر النبي من أن يتبع سبيل هؤلاء الضالين، أو يستمع لهم.. فهو على هدى، وهم على ضلال.
وفى قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} هو بيان للمدخل الخبيث، الذي يريد المشركون أن يدخلوا على النبي منه، وأن يخادعوه به.. فهم- وقد أبوا أن يستجيبوا للنبى، وأعياهم الوعد والوعيد معه أن يحوّلوه عن موقفه- هم يجيئون إليه بتلك الدعوة الخبيثة الماكرة، وهو أن يدهن أي يدارى أمره عنهم، فلا يذكر آلهتهم بسوء، ولا يظهر دعوته في الناس، وبذلك يتركونه وشأنه، فلا يعرضون له بسوء، ولا يلقونه بأذى!!
فقد جاء المشركون إلى النبي أكثر من مرة، يعرضون عليه، المال والجاه، على أن يدع ما يدعو إليه، فلما أعياهم الأمر، ولم يجدوا من النبي أذنا صاغية إليهم- جاءوا يدعونه إلى أن يعبدوا الإله الذي يعبده، مع آلهتهم التي يعبدونها، وأن يعبد هو آلهتهم التي يعبدونها مع إلهه الذي يعبده، وبهذا يرضونه في إلهه، ويرضيهم هو في آلهتهم، فنزل قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ...} إلى آخر السورة.
وأصل الإدهان: المداراة، والملاطفة، وطلاء الأمر بطلاء زائف، حتى يقبل تحت هذا الزيف.
وقوله تعالى: {فَيُدْهِنُونَ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم، أي فهم يدهنون.
والمعنى، فلا تطع المكذبين، فهم يدهنون، وودوا لو تدهن.. وهذا يعنى أن المشركين المكذبين هم على حال من الخديعة والغش فيما يقولون.
فهم يدهنون مع أنفسهم، فيخادعونها بهذا الباطل الذي يزينونه لها، وهم يدهنون مع الناس فيما يحدثونهم به، وهم يدهنون مع النبي فيما يعرضون عليه من أمور.
وهذا شأن كل من يمسك بالباطل.. إنه غير مطمئن إليه، فهو يحاول دائما أن يلبسه أثوابا بعد أثواب، من التمويه والخداع، حتى يدارى ما به من علل.
وفى مجيء النهى عن طاعة المكذبين بدلا من النهى عن تصديقهم- إشارة إلى ما هو أبعد من مجرد عدم التصديق، وهو لازمه، إذ يلزم من عدم التصديق للحديث، عدم إجابته والأخذ بمضمونه.. وهذا أبلغ من مجرد النهى عن التصديق، فقد لا يصدّق المرء محدّثة فيما يدعوه إليه، ثم تغلبه نفسه على متابعته، والاستجابة له فيما يفعل.
ولهذا اتجه النهى مباشرة إلى المطلوب منه، وهو عدم الاستجابة لتلك الدعوة التي يدعو إليها المكذبون.. إنهم لا يدعون إلى خير أبدا.
قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ}.
هذه ملامح، وصفات، تشين من يتصف بها، وتحطّ من قدره في الناس، فلا يوزن بميزان الإنسان السوىّ، الذي يطمئن إليه الناس، ويتعاملون معه في ثقة واطمئنان.. إنه لا يتصف بهذه الصفات إنسان له على ميزان الإنسانية وزن.. وهى صفات تجتمع وتتفرق في هؤلاء المشركين الضالين..
وسواء اجتمعت هذه الصفات كلها في شخص واحد، أو ظهرت عليه أعراض بعضها. فإن أية صفة منها تدعو إلى غيرها، إذ هي جميعها لا تصدر إلا من طبع لئيم، ولا تنضح إلا من نفس خبيثة فاسدة.
فكثير الحلف: كذوب، منافق.. يدارى كذبه ونفاقه بهذا الستار الأسود، من كثرة الأيمان الكاذبة الفاجرة.. ولهذا وصف بأنه {مَهِينٍ} أي حقير دنيء، لأنه لا يحترم نفسه، ولا يرتفع بها عن أن يبيعها بهذا الثمن البخس، حيث يعرضها في سوق النفاق والكذب، سلعة رخيصة، لا تجد من ينظر إليها إلا إذا جلجلت من حولها صيحات الأيمان الكاذبة.
والهماز المشاء بالنميم، هو وجه قبيح من وجوه أهل الكذب والنفاق.
حيث يهمز الناس أي يعيبهم، وينالهم بالسوء، في غيبتهم، ومن وراء ظهورهم.
فهو جبان، مهين، لا يجرؤ على أن يلقى الناس مواجهة.. وهو إذ يرمى الناس بالمساءات من وراء ظهورهم، يمشى كذلك بينهم بالنميمة، فينقل إليهم من المقولات ما بوقع العداوة والبغضاء بينهم، سواء أكان ما ينقله حقّا أو باطلا.
والمنّاع للخير: شخص مهين ذليل، ممسك بما في يده، ضنين به، لأنه يرى أنه في وجه الهلاك والضياع، إن هو لم يحصّن نفسه بالمال، ولم يقم عليها حارسا منه.. إن ذاتيته أضعف من أن تحمى ذاتها، ومن ثمّ كان لابد لها من شيء آخر تحتمى به، وهو المال، وكل ما يمكن أن يكون مصدر نفع مادىّ.. وهذا شأن النفوس الضعيفة المهينة، كما هو شأن ضعاف الحيوان، كالنمل والذرّ.. إنها تختزن طعامها لأيام وشهور، وربما لسنين، كما أنها تجر كل ما يصادفها إلى بيتها، سواء أكانت في حاجة إليه أم لم يكن لها به حاجة.. وفى هذا يقول الشاعر:
وهل يدخر الضرغام قوتا ليومه ** إذا ادخر النمل الطعام لعامه؟

إن الضن بالخير الذي يكون بين يدى الإنسان، لا يكون إلا من نفس ضعيفة مهينة، ليس في قدرتها العطاء، والإثمار، وإنما هي أشبه بالنباتات المتسلقة، لا تطلع زهرا، ولا تخرج ثمرا، ولا تنشئ طيبا، ولا تنشر ظلّا.
والمعتدى الأثيم، هو هذا الكذوب، المنافق، الهماز، المشاء بالنميم، الضنين بالخير، لأنه في كل هذه الصفات يحمل عدوانا، ويقترف إثما.. عدوانا على الناس بالكذب عليهم، ونهش أعراضهم من وراء ظهورهم، والسعى بالنميمة بينهم، وبالضنّ بما لهم من حق فيما بين يديه من خير.. وإثما على نفسه، بما حمل من أوزار بهذا العدوان على الناس.. والعتلّ: هو الجافي، الغليظ الطبع، الوحشىّ الطبيعة، الذي ينهش في أعراض الناس، ويقطّع أواصر الأخوة بينهم، دون أن تتأثر لذلك مشاعره، أو تألم لذلك نفسه، شأنه في هذا شأن الحيوان المفترس.
والزنيم: هو الدعىّ في نسبه، المنسوب إلى غير أبيه. أي ولد الزنا.
وفى قوله تعالى: {بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ} إشارة إلى أن هذه الصفة، وهى الزنامة، هي صفة تفوق في شناعتها تلك الصفات المذكورة كلها.. أي ومع الصفات الشنيعة كلها، فإنه قد جمع إليها الزنامة، التي هي وحدها مجمع المساءات كلها.
وينسب المفسرون هذه الصفات إلى الوليد بن المغيرة، تارة، وإلى الأخنس ابن شريق تارة أخرى.. ويقولون:، إن الوليد لم يكن ابن المغيرة، وإنما ادعاه المغيرة ونسبه إليه، وهو في الثامنة عشرة من عمره.
والرأى عندنا، أن هذه الصفات تجمع مجتمع أهل الضلال جميعا، من منافقين ومشركين.. وهى صفات لا يمكن أن تحتملها طبيعة بشرية، باعتبارها صفات ذاتية، ثم يكون لهذا الإنسان المتصف بها وجود بين الناس، وإن غاية ما يمكن أن تحتمل النفس البشرية من طبائع السوء، هو أن تكون على صفة من تلك الصفات اللئيمة، ثم ينضح عليها من تلك الصفة كثير أو قليل من المقابح والمنكرات.. بمعنى أن تكون تلك الصفة الذميمة هي الأمّ التي تتجمع حولها صفات أخرى ذميمة، تكون أشبه بالأعراض لهذه الصفة.. أما أن تكون كل صفة منها ذات وجود ذاتى في إنسان، فهذا ما يخرج الإنسان جملة من عالم الإنسانية، ويجعله زنيما، أي دعيّا في نسبه إلى الإنسانية.
ولهذا جاء لفظ {كلّ} في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}.
ليشير إلى أن هذه الصفات ليست مقصورة على شخص بعينه، وإنما هي صفات يدخل في دائرتها كل اتصف بها على أي وجه من الوجوه.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [28: الكهف].
وعلى هذا فإنه يمكن أن يكون للزنيم هنا معنى أعم من معنى أن يكون الإنسان دعيّا في نسبه إلى أب، أو قبيلة، وذلك بأن يحمل على أنه دعىّ في نسبه إلى المجتمع الإنسانى كله، فإن من تستولى عليه صفة من هذه الصفات، جدير بها أن تجعله مستنبتا للخبائث كلنا، فنغتال فيه كل معنى من معانى الإنسانية، وبهذا يصبح وجوده في الناس، وجودا غير شرعى، ويكون انتماؤه إليهم انتماء الأدعياء إلى غير آبائهم.. فهو لصيق في الناس، كما أن المنتسب إلى غير أبيه لصيق بمن انتسب إليه.. فكيف بمن جمع هذه الرذائل جميعها، واحتواها في كيانه؟
هذا، وإذا كانت هذه الآيات قد واجهت حالا من أحوال الوليد أو غيره ممن يقال إنها نزلت فيهم، فإن هذا لا يعنى أكثر من أن هذا الشخص، كان الصورة التي تجتمع فيها تلك الصفات، وتحمل أكبر قدر منها، ولهذا كان أصلح من يضرب به المثل في هذا المقام، ليكون شارة للإنسان الذي خرج من عالم البشر.
قوله تعالى: {أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي ألأن كان هذا الصنف من الناس ذا مال وبنين، يركبه الغرور، ويستبد به الضلال، حتى إذا تليت عليه آياتنا، لوى وجهه عنها، ووصفها هذا الوصف المشين، وأضافها إلى الكذب والافتراء، وقال عنها إنها من أساطير الأولين، وخرافاتهم؟. والاستفهام يراد به الوعيد والتهديد.
والذين قالوا إن الوليد بن المغيرة، هو الذي نزلت فيه الآيات، يجدون لهذا شاهدا من قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [11- 26: المدثر].
فهذه الآيات، قد تواترت الأخبار على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.
وبين هذه الآيات، والآيات التي في سورة القلم شبه كبير، كما هو ظاهر.
قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}.
هذا تحقيق للوعيد الذي حمله الاستفهام في قوله تعالى: {أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} والوسم، أشبه بالوشم، وهو علامة يعلّم بها الحيوان، بالكيّ في موضع بارز من جسمه، فيكون أثر الكي علامة مميزة له، دالة على مالكه.
والخرطوم: الأنف، ولا يقال إلا للأنف الطويل، كخرطوم الفيل مثلا.
وفى هذا وعيد وتهديد لهذا الإنسان الذي ركب رأسه وشمخ متطاولا بأنفه، وهام في أودية الضلال على وجهه، كما تهيم السائمة في البراري والقفار.
وفى وسم هذا الضال على أنفه الذي تشامخ به، ونفخه بالغرور، حتى طال وتورم وصار كالخرطوم- في هذا- إذلال له. وإهدار لآدميته، ودمغه بهذا الوشم كما يدمغ الحيوان.. إنه ليس من عالم الناس! ثم ليس هذا وحسب، بل إن الوسم سيكون في أعزّ مكان منه، وهو الأنف، الذي هو موضع الأنفة والعزة.. فما أهونه، وأضيعه، وأذلّه، هذا الحلاف المهين!!.